ظهير الدين علي بن زيد البيهقي:
هذا الكتاب النفيس «نهج البلاغة» مملوّ من ألفاظ يتهذّب بها المتحدث، و يتدرّب بها المتكلّم، فيه من القول أحسنه، و من المعاني أرصنه، كلام أحلى من نغم القيان، و أبهى من نعم الجنان، كلام مطلعه كسنة البدر، و مشرعه مورد أهل الفضل و القدر، و كلمات و شيها خبر، و معانيها فقر، و خطب مقاطعها غرر، و مباديها درر، استعاراتها تحكي غمرات الألحاظ المراض، و مواعظها تعبّر عن زهرات الرياض، جمع قائل هذا الكلام بين ترصيع بديع، و تحنيس أنيس، و تطبيق أنيق.
فللّه درّ خاطر عن مخائل الرّشد ماطر، و عين اللّه على كلام إمام ورث الفضائل كابرا عن كابر، و لا غرو للروض الناضر اذا انهلّت فيه عزالي الأنواء أن يخضرّ رباه، و يفوح ريّاه، و لا للساري في مسالك نهج البلاغة ان يحمد عند الصباح سراه، و لا لمجيل قداح الطهارة اذا صدّقه رائد التوفيق و الإلهام أن يفوز بقدحي المعلّى و الرقيب، و يمتطي غوارب كل حظّ و نصيب.
و لا شك أن أمير المؤمنين عليّ بن ابى طالب عليه السلام كان باب مدينة العلوم، فما نقول في سقط انفضّ من زند خاطره الوادي، و غيض بدا من فيض نهره الجاري، لا بل في شعلة من سراجه الوهّاج، و غرفة من بحره الموّاج، و قطرة من سحاب علمه الغزير، و لا ينبّئك مثل خبير.
ابن أبي الحديد:
كثير من أرباب الهوى يقولون: إن كثيرا من «نهج البلاغة» كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، و ربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن أو غيره، و هؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم، فضلّوا عن النهج الواضح، و ركبوا بنيّات الطريق«[1]»، ضلالا و قلّة معرفة بأساليب الكلام.
و أنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلو إما أن يكون كلّ «نهج البلاغة» مصنوعا منحولا، أو بعضه.
و الأول باطل بالضرورة، لأنّا نعلم بالتواتر صحة استناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، و قد نقل المحدّثون، كلّهم أو جلّهم، و المؤرّخون كثيرا منه، و ليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك.
و الثاني يدلّ على ما قلناه، لأن من قد أنس بالكلام و الخطابة، و شدا طرفا من علم البيان، و صار له ذوق في هذا الباب، لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك و الفصيح، و بين الفصيح و الأفصح، و بين الأصيل و المولّد و اذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاما لجماعة من الخطباء، أو لاثنين منهم فقط، فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين، و يميّز بين الطريقين.
ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر و نقده، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام و نفسه، و طريقته و مذهبه في القريض.
ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه، لمباينتها لمذهبه في الشعر و كذلك حذفوا من شعر أبي نوّاس كثيرا، لمّا ظهر لهم أنه ليس من ألفاظه و لا من شعره، و كذلك غيرهما من الشعراء، و لم يعتمدوا في ذلك إلّا على الذوق خاصة.
و أنت إذا تأملت «نهج البلاغة» وجدته ماء واحدا، و نفسا واحدا، و أسلوبا واحدا، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الأبعاض في الماهيّة، و كالقرآن العزيز، أوّله كوسطه، و أوسطه كآخره، و كلّ سورة منه و كل آية مماثلة في المأخذ و المذهب و الفن و الطريق و النظم لباقي الآيات و السور.
و اعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب، و سلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم أبدا، و ساغ لطاعن أن يطعن و يقول: هذا الخبر منحول، و هذا الكلام مصنوع، و كذا ما نقل عن أبي بكر و عمر من الكلام و الخطب و المواعظ و الآداب و غير ذلك، و كلّ أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي و آله و الأئمة الراشدين، و الصحابة و التابعين، و الشعراء و المترسلين و الخطباء، فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من «نهج البلاغة» و غيره، و هذا واضح.
الشيخ محمود شكري الآلوسي:
هذا كتاب «نهج البلاغة» قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب سلام اللّه عليه ما هو قبس من نور الكلام الإلهيّ، و شمس تضي ء بفصاحة المنطق النبويّ.
الأستاذ محمد حسن نائل المرصفي مدرّس البيان بكلية الفرير الكبرى بمصر:
«نهج البلاغة» ذلك الكتاب الذي أقامه اللّه حجة واضحة على أن عليا كان أحسن مثال حيّ لنور القرآن و حكمته، و علمه و هدايته، و إعجازه و فصاحته.
اجتمع لعليّ في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء، و أفذاذ الفلاسفة، و نوابغ الربّانيّين، من آيات الحكمة السابغة، و قواعد السياسة المستقيمة، و من كل موعظة باهرة، و حجة بالغة تشهد له بالفضل و حسن الأثر.
خاض عليّ في هذا الكتاب لجّة العلم، و السياسة و الدين، فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرّزا.
و لئن سألت عن مكان كتابه من الأدب بعد أن عرفت مكانه من العلم، فليس في وسع الكاتب المترسّل، و الخطيب المصقع، و الشاعر المفلق، أن يبلغ الغاية من وصفه، أو النهاية من تقريظه.
و حسبنا أن نقول: أنه الملتقى الفذّ الذي التقى فيه جمال الحضارة، و جزالة البداوة، و المنزل المفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلا تطمئن فيه، و تأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة.
الشيخ ناصيف اليازجي:
ما أتقنت الكتابة إلا بدرس القرآن العظيم و «نهج البلاغة»، فهما كنز العربية الذي لا ينفد، و ذخيرتهما للمتأدب.
و هيهات أن يظفر أديب بحاجته من هذه اللغة الشريفة إن لم يحي لياليه سهرا في مطالعتهما و التبحّر في عالي أساليبهما.
الشيخ ناصيف اليازجي يوصي ولده الشيخ إبراهيم:
إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم و الأدب، و صناعة الإنشاء، فعليك بحفظ القرآن و «نهج البلاغة».
الشيخ أبو الثناء شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي:
«نهج البلاغة» الكتاب المشهور الذي جمع فيه السيد الرضي الموسوي خطب الأمير كرّم اللّه وجهه، و كتبه، و مواعظه، و حكمه.
و سمّي «نهج البلاغة» لما أنه قد اشتمل على كلام يخيّل أنه فوق كلام المخلوقين و دون كلام الخالق عزّ و جلّ.
قد اعتنق مرتبة الاعجاز، و ابتدع أبكار الحقيقة و المجاز. و للّه درّ الناظم حيث يقول فيه:
ألا إن هذا السفر (نهج البلاغة) لمنتهج العرفان مسلكه جليّ
على قمم من آل حرب ترفّعت
كجلمود صخر حطّه السيل من «علي»
الدكتور زكي مبارك:
لا مفرّ من الاعتراف بأن «نهج البلاغة» له أصل، و إلّا فهو شاهد على أن الشيعة كانوا من أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ إني لأعتقد أن النظر في كتاب «نهج البلاغة» يورث الرّجولة و الشهامة و عظمة النفس، لأنه من روح قهّار واجه المصاعب بعزائم الأسود.
الأديب الشهير الأستاذ أمين نخلة:
إذا شاء أحد أن يشفي صبابة نفسه من كلام الإمام فليقبل عليه في «النهج» من الدفّة إلى الدفّة و ليتعلّم المشي على ضوء «نهج البلاغة».
الأستاذ عباس محمود العقّاد:
في كتاب «نهج البلاغة» فيض من آيات التوحيد و الحكمة الإلهية تتّسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد، و أصول التأليه و حكم التوحيد.
الأستاذ محمد أمين النواوي:
حفظ علي القرآن كلّه، فوقف على أسراره، و اختلط به لحمه و دمه، و القارئ يرى ذلك في «نهج البلاغة» و يلمس فيه مقدار استفادة علي من بيانه و حكمته، و ناهيك بالقرآن مؤدّبا و مهذّبا، يستنطق البكي ء الأبكم فيفتق لسانه بالبيان الساحر، و الفصاحة العالية، فكيف إذا كان مثل عليّ في خصوبته، و عبقريته، و استعداده ممن صفت نفوسهم، و أعرضوا عن الدنيا، و أخلصوا للدين، فجرت ينابيع الحكمة من قلوبهم، متدفقة على ألسنتهم، كالمحيطات تجري بالسلس العذب من الكلمات.
و هل كان الحسن البصري في زواجر وعظه، و بالغ منطقه إلا أثرا من علي، و قطرة من محيط أدبه، ففتن الناس بعبادته، و خلّب ألبابهم بجمله، فكيف يكون الأستاذ العليم، و الإمام الحكيم، علي ابن أبي طالب.
لقد كان عليّ في خطبه المتدفّقة يمثل بحرا خضما من العلماء الربّانيّين و أسلوبا جديدا لم يكن إلّا لسيّد المرسلين، و طرق
بحوثا من التوحيد لم تكن تخضع في الخطابة إلا لمثله، فهي فلسفة سامية لم يعرفها الناس قبله، فدانت لبيانه و سلست في منطقه و أدبه.. و خاض في أسرار الكون، و طبائع الناس، و تشريح النفوس، و بيان خصائصها و أصنافها، و عرض لمداخل الشيطان و مخارجه، و فتن الدنيا و آفاتها، في الموت و أحواله، و في بدء الخلق، و وصف الأرض، و في شأن السماء و ما يعرج فيها من أملاك، و ما يحفّ بها من أفلاك، كما عرض لملك الموت، و أطال في وصفه.
و خطب عليّ في السياسة، و في شئون البيعة و العهد و الوفاء، و اختيار الأحقّ و ما أحاط بذلك من ظروف و صروف، كتحكيم صفّين و ما تبعه من آثار سيئة و تفرّق الكلمة.
و لم يفته أن ينوّه في خطبه بأنصار الحقّ، و أعوان الخير، و الدعوة إلى الجهاد، و فيها محاجّه للخوارج، و نصحه لهم و لأمثالهم باتّباع الحق. و غير ذلك مما يكفي فيه ضرب المثل، و لفت النظر.
غير أن ناحية عجيبة امتاز بها الإمام، هي ما اختصّ بها الصفوة من الأنبياء و من على شاكلتهم، كانت تظهر في بعض تجلّياته، و أشار إليها في بعض مقاماته، و لم يسلك فيها سواه إلّا أن يكون رسول اللّه صلوات اللّه عليه، فقد ذكر كثيرا من مستقبل الأمّة، و أورد ما يكون لبعض أحزابها كالخوارج و غيرهم، و من ذلك وصفه لصاحب الزنج و ذكر الكثير من أحواله، و ذلك من غير شكّ لون من الكرامات.
هذا إلى أنه طرق نواحي من القول كانت من خواصّ الشعر إذ ذاك، و لكنه ضمّنها خطبه، فوصف الطبّ، و عرض للخفّاش و ما فيه من عجائب، و الطاوس و ما يحويه من أسرار، و ما في الإنسان من عجائب الخلق، و آيات المبدع الحق.
و أحيلك في ذلك كله على «نهج البلاغة».
و هكذا تجد في كلام علي، الدين و السياسة، و الأدب، و الحكمة، و الوصف العجيب، و البيان الزاخر.
هذا كتاب علي إلى شريح القاضي يعظه، و قد اشترى دارا، و يحذّره من مال المسلمين، في معان عجيبة، و أسلوب خلّاب.
و هذا كتابه إلى معاوية يجادله في الأحقّ بالخلافة، و قتل عثمان، في معان لا يحسنها سواه.
و تلك كتبه إلى العاملين على الصدقات يعلّمهم فيها واجباتهم في جميع ملابساتهم.
و ذلك عهده إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر، [و عهده للأشتر].
و تلك وصيته الى الحسن عند منصرفه من صفّين لم يدع فيها معنى تتطلّبه الحياة لمثله إلّا وجّهه فيها أسمى توجيه، في فلسفة خصيبة، و حكم رائعة مفيدة، و كل تلك النواحي و الأغراض في معان سامية مبسّطة، يعلو بها العالم الربّاني الغزير، و الروح السامية الرفيعة، و تدنو بها القوة الجبّارة على امتلاك أزمّة القول، كأنّما نثل كنانته بين يديه فوضع لكل معنى لفظة في أدقّ استعمال.
و لقد يضيق بي القول فأقف حائرا عاجزا عن شرح ما يجول بنفسي من تقدير تلك المعاني السامية، فيسعدني تصوير الإمام له و هو يقدّم «نهج البلاغة»، فكان يخيّل إليّ في كل مقام أن حروبا شبّت، و غارات شنّت، و أن للبلاغة دولة، و للفصاحة صولة.
أما الأسلوب فيتجلى لك بما يأتي:
(1) الثروة من الألفاظ العربية في مفردها و جمعها، و مذكّرها و مؤنّثها، و حقيقتها و مجازها.
(2) المجازات و الكنايات في معرض أنيق، و قالب بديع.
(3) الإيجاز الدقيق مع الإطناب في مقامه، و يظهر ذلك في فقره، و سجعاته الفريدة، التي يجمل بكل أديب أن يحفظ الكثير منها، ليكون بيانه التكوين العربي السليم.
(4) المحسّنات البديعة في نمط ممتاز، من جناس إلى طباق و ترصيع، و إلى قلب و عكس، تزدان بجمالها البلاغة، و يكمل بها حسن الموقع.
(5) الجرس و الموسيقى، و جمال الإيقاع، مما يدركه أهل الذوق الفني.
و يحسن قبل الختام أن أشير إلى ما نوّه به صاحب «الطراز» الإمام يحيى اليمني، فقد تكرر ذلك في عدة مناسبات و أولها تمثيله للبلاغة في أول كتابه، قال، و هو في ذلك الصدد: «فمن معنى كلامه ارتوى كل مصقع خطيب، و على منواله نسج كل واعظ بليغ، إذ كان عليه السلام مشرّع البلاغة، و موردها، و محطّ البلاغة و مولدها، و هيدب مزنها الساكب، و متفجّر و دقها الهاطل، و عن هذا قال أمير المؤمنين في بعض كلامه: نحن أمراء الكلام، و فينا تشبثت عروقه، و علينا تهدّلت أغصانه.
ثم أورد مثالا من أول خطبة في «نهج البلاغة»، و قال: العجب من علماء البيان و الجماهير من حذّاق المعاني كيف أعرضوا عن كلامه و هو الغاية التي لا مرتبة فوقها، و منتهى كل مطلب، و غاية كل مقصد، في جميع ما يطلبونه، من المجازات و التمثيل و الكنايات.
و قد أثر عن فارس البلاغة، و أمير البيان، الجاحظ، انه قال: ما قرع سمعي كلام بعد كلام اللّه، و كلام رسوله إلّا عارضته، إلّا كلمات لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم اللّه وجهه، فما قدرت على معارضتها، و هي مثل قوله: «ما هلك امرؤ عرف قدره» و «استغن عمّن شئت تكن نظيره، و أحسن إلى من شئت تكن أميره، و احتج إلى من شئت تكن أسيره».
الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد:
«نهج البلاغة» هو ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، و هو الكتاب الذي ضمّ بين دفّتيه عيون البلاغة و فنونها، و تهيأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة، و دنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق بعد الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم منطقا، و أشدهم اقتدارا، و أبرعهم حجّة، و أملكهم للّغة يديرها كيف شاء، الحكيم الذي تصدر الحكمة عن بيانه، و الخطيب الذي يملأ القلب سحر بيانه، و العالم الذي تهيّأ له من خلاط الرسول، و كتابة الوحي، و الكفاح عن الدين بسيفه و لسانه منذ حداثته، ما لم يتهيأ لأحد سواه.
الأستاذ الشيخ محمد عبده:
قد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب «نهج البلاغة» مصادفة بلا تعمّل، فتصفّحت بعض صفحاته، و تأملت جملا من عباراته، فكان يخيّل لي في كل مقام أن حروبا شبّت، و غارات شنّت، و أن للبلاغة دولة، و للفصاحة صولة، و أن للأوهام عرامة، و للريب دعارة، و أن جحافل الخطابة، و كتائب الدرابة، في عقود النظام، و صفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الأبلج، و القويم الأملج، و تمتلج المهج بروّاضع الحجج، فتقلّ من دعارة الوساوس و تصيب مقاتل الخوانس فما أنا إلّا و الحق منتصر، و الباطل منكسر، و مرج الشكّ في خمود، و هرج الريب في ركود، و أن مدبر تلك الدولة، و باسل تلك الصّولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
بل كنت كلّما انتقلت من موضع إلى موضع أحسّ بتغير المشاهد، و تحوّل المعاهد: فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية، في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، و تدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، و تقوّم منها مرادها، و تنفّر بها عن مداحض المزالق، إلى جوادّ الفضل و الكمال.
و طورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، و أنياب كاشرة، و أرواح النمور، و مخالب النسور، قد تحفّزت للوثاب، ثم انقضّت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها و أخذت الخواطر دون مرماها، و اختالت فاسد الأهواء، و باطل الآراء.
و أحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب الإلهي، و اتّصل بالروح الإنساني، فخلع عن غاشيات الطبيعة و سما به إلى الملكوت الأعلى، و نما به إلى مشهد النور الأجلى، و سكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس.
و آنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بإعياء الكلمة، و أولياء أمر الأمة، يعرّفهم مواقع الصواب، و يبصّرهم مواضع الارتياب، و يحذّرهم مزالق الأضراب، و يرشدهم إلى دقائق السياسة، و يهديهم طرق الكياسة، و يرتفع بهم إلى منصّات الرئاسة، و يصعّدهم شرف التدبير، و يشرف بهم على حسن المصير.
ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه اللّه من كلام سيدنا و مولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كرم اللّه وجهه، جمع متفرّقه و سمّاه «نهج البلاغة»، و لا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه، و ليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه، و لا أن آتي بشي ء في بيان مزيّته فوق ما أتي به صاحب الاختيار» و لو أردنا أن نأتي بكل ما قيل في نهج البلاغة لطال بنا المقام، و حسبك يا قارئ الكتاب ما ذكرنا شهادة و برهانا.
[1] البنيّات: أصله الطرق الصغار تتشعب من الجادّة، ثم أطلقت على الترهات.